وائل الدحدوح وغزة- الألم، الصمود، وتناقضات العالم

مرة تلو الأخرى، نشاهد وائل الدحدوح، مدير مكتب الجزيرة في غزّة، يشيّع أحبّته. تنقل لنا الشاشة، التي لطالما شهدت على تقاريره المؤثرة، مشاعر الألم والأسى العميقين في وداع ابنه حمزة، وسط محاولات الحاضرين لإنهاء مراسم الوداع المؤلمة، كما هو معتاد في مثل هذه الظروف القاسية.
تنقل لنا الشاشة تفاصيل الوداع المحمّل بالنهايات المادية، وبفيض من المشاعر المتجاوزة للحظة والمكان، وفي طياته بداية جديدة لرحلة عمل لا تنتهي، وعودة قسرية إلى الميدان، ومواجهة قاسية للألم الغائر في الأعماق والظاهر للعيان، أمام قسوة الواقع وعدسات الكاميرات، دون القدرة على التعبير عن الحزن العميق، أو التمتّع بمساحة خاصة للتأبين كما يليق بفقد عزيز.
لا شيء سوى الألم والفقد
يمثل الدحدوح بصلابته وصبره جزءًا أصيلًا من المشهد الفلسطيني المؤلم، وخاصة في غزّة المحاصرة، في ظلّ حرب الإبادة والتدمير الممنهج التي تشنّها إسرائيل على القطاع دون أدنى اعتبار للقوانين والأعراف الدولية.
في المقابل، يكشف الواقع المأساوي المحيط بهذا المشهد عن غياب تام لأبسط مقومات الحياة الكريمة، وتلاشي القيم الإنسانية النبيلة للفلسطينيين في قطاع غزّة، في ظلّ العدوان الإسرائيلي المتواصل تحت شعار تجريد الإنسان الفلسطيني من إنسانيّته، والتعامل معه بمنطق "الحيوانات البشرية"، كما صرّح وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت بكل وقاحة.
لا يوجد في غزّة سوى الفقد والوجع الدائم، بالرغم من الصمود الأسطوري لأهلها، ولا يوجد وقت متاح للشعور العميق بأي شيء، رغم التشبث بالحياة ومحاولة غرس بذور الأمل. الوداع قسري وسريع، والحزن مؤجل إلى حين، الجوع ينهش الأجساد والشبع غائب، الحرب مشتعلة والأمن منعدم، الخوف يخيم على النفوس والأمان بعيد المنال، الخيام منصوبة والدولة حلم مؤجل، اللجوء قسري والقانون معطل، الأقوال كثيرة والأفعال مؤجلة، الإدانات والوعود جوفاء والتنفيذ بعيد المنال.
لا يوجد في غزّة ما يشبه الحياة، ولا الموت فيها يشبه الموت الطبيعي.. الكل مستهدف دون تمييز، والكل عرضة للدمار الشامل، وما زال هناك في إسرائيل من يدعو صراحة إلى التسبّب في المزيد من المعاناة والألم؛ لأن الموت وحده عقوبة غير كافية ولا تتناسب مع نزعة الانتقام المتأصلة لدى وزير التراث الإسرائيلي عميحاي إلياهو، الذي لم يتردد في التلميح إلى إمكانية إلقاء قنبلة نووية على القطاع في بداية الحرب.
ويرى وزير التراث المتطرف أن الموت السريع لا يكفي للتعبير عن صدمة السابع من أكتوبر الماضي (2023)، ولا يستعيد الردع والهيبة المفقودة، ولا يتناسب مع أفكار ومعتقدات اليمين الأكثر تطرفًا الذي يمثله، وهو العضو البارز في حزب "القوة اليهودية" اليميني المتطرف الذي ينتمي إليه أيضًا إيتمار بن غفير، وزير الأمن القومي سيئ الصيت، كما لا يتناسب مع الرغبة الجامحة في استغلال الأحداث الجارية من أجل تصفية القضية الفلسطينية برمتها، والقضاء على كل ما هو فلسطيني.
رغبة مريضة في الانتقام
نزعة الانتقام الإسرائيلية حاضرة بقوة ضمن قائمة أهداف واسعة النطاق، تشمل غزّة بجميع سكانها ومبانيها، وتمتدّ لتطال مدن الضفة الغربية وقراها ومخيماتها، مثل نابلس وجنين وطولكرم والقدس. انتقام يتغذى على الألم والمعاناة الفلسطينية المتزايدة، ويطالب بالمزيد من الموت والخراب، في ظلّ هيمنة أصوات وسياسات اليمين المتطرف والأكثر تطرفًا على المشهد السياسي.
أصوات تدعو صراحة إلى الإبادة الجماعية وتسود المشهد العام، بينما تظهر على استحياء أصوات خافتة تطرح تساؤلات ضرورية وملحة حول مدى توحّش المجتمع الإسرائيلي، وتحوّل خطاب الكراهية والإبادة إلى خطاب سائد ومقبول في الداخل الإسرائيلي دون أي محاسبة أو رادع، وتستشرف المستقبل القاتم الذي يحمله هذا الواقع المرير من الخوف والعنف.
هو سؤال يعيد إلى الأذهان تساؤلات أعمق وأشمل حول وضع غزّة في مواجهة القيم الغربية الزائفة، التي تدعي الدفاع عن حقوق الإنسان والحريات الأساسية.
فإسرائيل التي تُوصف بأنها دولة ديمقراطية فريدة في المنطقة، كما يكرر البعض باستمرار، وكما يؤكد بعض الأصوات الغربية حتى الآن، تستمر في انتهاك الحقوق والحريات بشكل صارخ، وتقتل الأبرياء دون أدنى مساءلة، وتدمر كل شيء دون قيود، ودون أي محاولة لتفكيك الخطاب الديمقراطي المزيف والمتناقض مع الواقع، وكأن من الطبيعي أن تكون الديمقراطية حكرًا على فئة معينة، وأن تكون الانتهاكات مبررة ما دامت تحدث ضد مجموعة مختلفة، أو ضد آخر لا ينتمي إلى العالم الغربي "المتحضر".
خطاب متناقض
ديمقراطيّة غربيّة تتجسد في معركة انتخابية أميركيّة شرسة يتنافس فيها الرئيس الحالي جو بايدن، والرئيس السابق دونالد ترامب، حول مفهوم الديمقراطية الأميركيّة الأصيل، ومن الذي أساء إليها وهدّدها، ومن الذي دافع عنها ودعمها.
ولكن هذه الديمقراطية تتجلى بصورة مغايرة تمامًا في عالمنا العربي التعيس، حيث الموت حاضر دائمًا، والقانون الدولي غائب تمامًا، ونائب الرئيس الأميركي السابق مايك بنس يتباهى بتوقيعه على قذيفة تستهدف لبنان، وتحمل الموت والدمار والخراب.
يمثل بنس جزءًا لا يتجزأ من سلسلة متصلة من الخطابات والتصريحات والتحركات الصادرة عن العديد من الدول الغربية، الشريكة لإسرائيل في "القيم" و"الديمقراطية"، والتي لم تعترض على الموت والدمار في غزّة أو لبنان أو اليمن؛ بحجة الدفاع عن "حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها"، أو الدفاع عن "أمن إسرائيل"، والدفاع -يا للمفارقة- عن "الاستقرار والازدهار في المنطقة والعالم أجمع"، في وقت تتفاقم فيه التناقضات الصارخة، بين خطاب يطالب بتقييد الحرب وعدم توسيع نطاقها، وبين سياسات ومواقف عملية تصبّ في اتجاه تصعيد الحرب وإشعال المزيد من الحرائق.
العالم يسحق العدل بحقارة كل يوم
في مواجهة الضغوط الشعبية المتزايدة، وتأثير صور المعاناة الإنسانية المروعة، بدأت بعض الأصوات في الغرب تتراجع عن مواقفها السابقة المؤيدة لإسرائيل بشكل أعمى، وتحولت إلى خطاب أكثر "إنسانية"، دون إدانة تل أبيب بشكل صريح، بينما يركز البعض الآخر على الحديث عن المساعدات الإنسانية فحسب، وكأن الفرق الوحيد في مواجهة الموت هو توقيت وصول المساعدات الإنسانية، وليس وقف القتل وحماية المدنيين والقانون الدولي والإنساني، كما يقتضي المنطق والأخلاق.
تسعى إسرائيل، ومن يدعمها من الدول الغربية، إلى جرنا إلى جدل عقيم حول التفاصيل الثانوية والمستقبل المجهول، ومن سيدفع ثمن تصفية الفلسطينيين لكي يتمكن العالم من نسيان جوهر القضية الفلسطينية، والمتمثل في وجود احتلال غاشم يجب أن يحاسب ويتوقف، لا أن يستمر في التوسع على حساب الشعب الفلسطيني ودول الجوار والعالم أجمع، ولا أن يحدد مصير تلك الدول والمنطقة برمتها، وقبل ذلك مصير الشعب الفلسطيني وقطاع غزّة.
تتراجع القيم والمبادئ والقوانين والديمقراطية في غزّة لصالح الحقيقة المجردة التي أكّد عليها غسان كنفاني يومًا، وهي أن "العالم يسحق العدل بحقارة كل يوم"، وما زال.
ولكن في مواجهة هذا التراجع المريع، يظل الثبات والصمود الأسطوري للشعب الفلسطيني حاضرًا ما بقي الزعتر والزيتون، ورغم الألم والفقد العظيم يظل شموخ وائل الدحدوح رمزًا شامخًا كشجرة الزيتون المباركة، ورسالة قوية ليست فقط إلى المشاهد المهتمّ، ولكن إلى ضمير العالم، أو ما تبقى من هذا الضمير.
